الشعر كلام , والكلام منه ماهو قبيح وماهو
مقبول , ولأن الإسلام ضد كل قبيح ,فقد نهي عن شعر الهجاء اللاذع والغزل
الصريح ؛أما الشعر في حد ذاته فلم يعاديه الإسلام في شئ , بل علي
العكس,فقد كان الرسول- صلي الله عليه وسلم- يحب الشعر والشعراء , ومما يدل
علي ذلك :
*أن النبي - ص- كان إذا اشتد القتال في
المعركة يشجع نفسه والمسلمين من حوله بقوله :"انا النبي لا كذب , أنا ابن
عبد المطلب"؛فالنبي عربي النشأة ,يعرف للشعر مكانته وللشاعر رتبته التي
كانت له في القبيلة قبل الإسلام , وقد كان الشعر متنفس العربي في بيئته
القاسية في تضاريسها ومناخها؛فكيف للإسلام , وهو دين السماحة والإنسانية ,
أن يقف ليسد هذا المتنفس للعربي أو يجعاه يتخلي عن فطرته الشاعرة وعن حبه
للشعر ؟!
*وكان النبي -ص- شديد الإعجاب بالشعر
الذي يلتزم مكارم الأخلاق , حيث قال : " إن من البيان لسحرا , وإن من
الشعر لحكمة" ؛كما اتخد النبي -ص- من حسان بن ثابت الأنصاري شاعراً له يرد
عنه مايقال فيه هجاءاً له .
* وصفح النبي -ص- عن الشاعر كعب بن زهير وأعطاه بردته حين أنشده تائباً قصيدته (بانت سعاد) : والتي يقول في مطلعها :
بانت سعاد فقلبي اليوم مَتبُولُ ***متيم إثرها لم يفد مكبولُ
"ونلاحظ
أنه قد بدأ القصيدة كما اعتاد شعراء الجاهلية بدء قصائدهم ,بالغزل أو
البكاء علي الأطلال, ورغم ذلك ؛فقد أعطاه النبي بردته استحساناً لشعره :
أي أنه لم يحرم شعره لأنه كان في الغزل العفيف".
*كما أعجب النبي -ص- بشعر نابغة بني جعدة وقال له حين أنشده الشعر "لا يفض الله فاك " .
مايتخذه البعض علي أنه دليل لمعاداة الإسلام للشعر والرد عليه :
**ومن
ثم ؛فإن حديث " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً أو دماً خيرٌ له من أن يمتلئ
شعراً"لا يتفق مع موقف الرسول -ص- من الشعر, وإعجابه به ,وترديده له , كما
يتعارض ذلك مع موقفه من الشعراء , فقد بني النبي -ص- منبراً لحسان بن ثابت
في المسجد ينشد عليه الشعر , كما كانت السيدة عائشة- رضي الله عنها- كثيرة
الرواية للشعر.
-كما يتعارض ذلك أيضاً مع ما سار
عليه الخلفاء الراشدون بعد رسول الله -ص-من إعجابهم بالشعر والشعراء , ولو
كان ذلك قول رسول الله -ص- لكانوا أقرب الناس للسير علي نهج الرسول في
كراهيته للشعر والشعراء , وخاصةً أن كثيراً منهم أعجب بالشعر وأبدع فيه ؛
أليس هذا بقول أبي بكر ٍ الصديق عندما انتقل النبي للؤفيق الأعلي :
أجدك مالِعَينك لاتنام***كأن جفونها فيها كلام !
وهذا قول عمر بن الخطاب :
مازلت مذ وضعوا فراش محمد***كيما يمرض خائفاً أترجع
-كما
كان الخلفاء الراشدون يستقبلون الوفود وعلي رأسهم الشعراء ؛فسخوضون معهم
في الشعر. وقال معاوية :"يجب علي الرجل تأديب ولده ,والشعر أعلي مراتب
الأدب ", وقال أيضاً :"اجعاوا الشعرَ أكثر أدبكم ". وكان عبد الله بن عباس
-رضي الله عنه - يقول : " إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه ؛
فاطلبوه في أشعار العرب ؛ فإن الشعر ديوان العرب ",كما كان يطرب لشعر عمر
بن أبي ربيعة ويحفظه .
**أما ماروي عن الرسول -ص-
في شأن امرئ القيس وحمله لواء الشعراء يقودهم إلي النار يوم القيامة ؛
فهذه رواية يتداولها الإخباريون اللغويون ورجال الأدي كابن قتيبة في
كتابيه (عيون الأخبار ) و (الشعر والشعراء) , كما رواها الأصفهاني في
كتابه (الأغاني) .بينما يضعف رجال الحديث , وهم الحجة , من هذه الرواية أو
ينكرونها.
**وقوله تعالي " وما علمناه الشعر
وما ينبغي له "؛فليس ضد الشعر وتعلمه , ولكنه تأكيد علي صدق الكلام الذي
أنزل الله علي نبيه وحياً من عنده لاشعراً مستوحي من الخيال مثلما قال
تعالي في الآيات الكريمة " وما ينطق عن الهوي - إن هو إلا وحيٌ يوحي".
**أما
الآيات الكريمة من أواخر سورة الشعراء " والشعراء يتبعهم الغاوون -ألم ترَ
أنهم في كل وادٍ يهيمون-وأنهم يقولون مالايفعلون-إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظُلِموا وسيعلم الذين
ظَلَموا أي منقلبٍ ينقلبون " , فهي علي التفصيل الآتي كما ورد في تفسير
الإمام ابن كثير وتفسير الجلالين:
*والشعراء يتبعهم الغاوون=قال عكرمة : كان الشاعران يتهاجيان ؛ فينتصر لهذا فئة من الناس وينتصر لهذا فئة من الناس.
*ألم
تَرَأنهم في كل وادٍ يهيمون=قال الحسن البصري : قد والله رأينها أوديتهم
التي يخوضون فيها مرة في شتيمة فلان ومرة في مديحة فلان , وقال قتادة :
الشاعر يمدح قوماً بباطل ويذم قوماً بباطل .
*وأنهم
يقولون مالا يفعلون=؛فالشعراء قد يَدّعون أقوالاً وأفعالاً لم تصدر منهم
ولا عنهم , ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا اعترف الشاعر في شعره
بما يوجب عليه الحد هل يُقام عليه بهذا الاعتراف أم لا لأنهم يقولون
مالايفعلون ؟ علي قولين .
-وقد ذكر محمد ابن
إسحاق أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-وَلّي النعمان بن عدي
علي ميسان من أرض البصرة , وكان يقول الشعر ,
فقال:
لعلّ أمير المؤمنين يسوؤه *** تنادمنا بالجوسق المتهدم
(أي شربنا الخمر , والجوسق: هو القصر الصغير)
فلمابلغ
ذلك الشعر أمير المؤمنين عزله ؛فلم يُذكر أنه حَدّهُ علي الشراب وقد
ضَمّنَهُ شعره ,لأنهم يقولون مالا يفعلون , ولكن ذمه عمر رضي الله عنه
ولامه علي ذلك وعزله به .
*إلا الذين آمنوا
وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعدما ظُلِموا وسيعلم
الذين ظَلَموا أي منقلبٍ ينقلبون = أي إلا من أسلم من شعراء الجاهلية فتاب
عن ذم الإسلام وأهله وأقلع عن ذلك وعمل صالحاً وذكر الله كثيراً في مقابل
ماتقدم من الكلام السيئ , فإن الحسنات يذهبن السيئات , وقيل ذكروا الله
كثيراً في شعرهم وكلامهم, وانتصروا من بعدما ظُلِموا بأيديهم عندما سبوا
الإسلام وأهله , وقد نزلت هذه الآية التي يستثني الله فيها من تاب منهم عن
ذلك بعد إسلام معاوية , وقد كان أشد الناس عداءً للنبي -صلي الله عليه
وسلم -وأكثرهم له هجاءاً؛ وهو ابن عمه,فعاهد النبي -صلي الله عليه وسلم أن
يكون كاتباً بين يديه وأن يحارب معه الكفار كما كان يحارب المسلمين وأن
يمدحه في مقابلة ذمه له في الجاهلية .
خلاصة
القول ؛فإن الإسلام لايعادي الشعر والشعراء , ولقد نزل القرآن علي قومٍ هم
أرباب الفصاحة والبيان ؛ فكان القرآن الكريم مصدراً للبلاغة التي لا تضاهي
.
المصدر : قراءات في آفاق الأدب الأموي ؛ للدكتور عيسي مرسي سليم , أستاذ اللغة العربية بكلية الألسن جامعة عين شمس.